رد أستاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي “حلمي القماطي” على تقرير البنك الدولي حول ليبيا
كتب: د. حلمي القماطي / رئيس قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد بجامعة بنغازي
يوفّر التقرير الأخير الصادر عن البنك الدولي نظرة تحليلية وافية لمسار الاقتصاد الليبي، حيث يسلّط الضوء على مظاهر التقدّم المتحقق إلى جانب الهشاشة البنيوية المستمرة. ورغم أن التقرير أصاب في التأكيد على أهمية التنويع الاقتصادي وتعزيز دور القطاع الخاص، إلا أن مراجعة الواقع المحلي تُظهر بيئة أكثر تعقيدًا وتقييدًا أمام تحقيق نمو مستدام.
- الاعتماد على النفط والهشاشة المؤسسية
يشير التقرير إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.6% في عام 2024، نتيجة لانخفاض الناتج النفطي بنسبة 6%، وهو ما يعكس بوضوح تقلبات الاقتصاد الريعي المعتمد على النفط. ورغم أن الناتج غير النفطي سجل نموًا بنسبة 7.5%، فإن هذا النمو كان مدفوعًا بالاستهلاك وليس بالاستثمار أو مكاسب الإنتاجية، مما يجعله نموًا هشًا وغير قابل للاستمرار، خاصة في ظل الانقسام الحكومي الذي يشتّت الإنفاق العام ويُسخّره لأهداف سياسية.
أما توقعات إنتاج النفط لعام 2025 والتي تشير إلى وصول متوسط الإنتاج إلى 1.3 مليون برميل يوميًا، فهي توقعات تبدو متفائلة، لكنها تظل عرضة لمخاطر أمنية، وتخريب البنية التحتية، وتقلبات جيوسياسية، مما يُضعف مصداقية هذه التقديرات ويقوّض دقة توقعات النمو العام.
- نمو القطاع غير النفطي: واعد لكنه محدود
إن توقع نمو الناتج غير النفطي بنسبة 5.7% هو أمر مرحب به، لكنه على الأرجح تقدير مبالغ فيه إذا ما نظرنا إلى طبيعة البيئة الاقتصادية في ليبيا، حيث يعاني القطاع الخاص من:
• ضعف شديد في الوصول إلى التمويل نتيجة الأداء المحدود للقطاع المصرفي،
• هشاشة في سيادة القانون وآليات تنفيذ العقود،
• عراقيل بيروقراطية وأمنية واسعة النطاق،
• بيئة مؤسسية منقسمة تفتقر إلى التنسيق في صنع السياسات.
دون معالجة هذه الاختلالات المؤسسية والقانونية، فإن المراهنة على نمو يقوده القطاع الخاص قد تكون سابقة لأوانها.
- الشركات العامة: إصلاح أم انسحاب؟
ركز التقرير بشكل صائب على الشركات المملوكة للدولة، والتي تُقدّر بنحو 190 شركة تهيمن على قطاعات حيوية مثل النفط والاتصالات والخدمات العامة. هذه الشركات:
• تعاني من انخفاض الإنتاجية، وتوظيف سياسي، وضعف الحوكمة،
• تُمثّل عبئًا كبيرًا على المالية العامة،
• تعيق المنافسة وتُثبّط الابتكار في القطاعات الناشئة.
وتحديدًا، فإن استمرار الخسائر في شركات البنية التحتية والمصارف، إلى جانب غياب الشفافية المالية، يؤدي إلى سوء تخصيص الموارد ويمنع توجيه رؤوس الأموال نحو أنشطة إنتاجية يقودها القطاع الخاص.
وعليه، يجب أن ترتكز أي خطة إصلاح جادة على:
• تدقيق شفاف في أداء هذه الشركات،
• تحرير تدريجي للقطاعات التنافسية،
• تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص ضمن أطر تنظيمية فعالة.
- القيود السياسية والحوكمة: العائق الأعمق
أبرز ما غاب عن التقرير هو استمرار الانقسام المؤسسي في الدولة الليبية. فرغم الإعلان الرسمي عن توحيد مصرف ليبيا المركزي في عام 2023، فإن السيطرة الفعلية على المنافذ الجمركية والموانئ والمشتريات العامة لا تزال موزعة بين حكومتين متنافستين، مما يُضعف قدرة الدولة على تنفيذ سياسة نقدية ومالية موحدة، ويخلق اقتصادات موازية متضاربة.
وفوق ذلك، يفاقم الفساد، وتفشي الزبونية، وضعف إدارة المالية العامة من أزمة الثقة، ويشوّه تخصيص الموارد، مما يُقوّض أي مسار نحو تعافٍ اقتصادي حقيقي دون إصلاح مؤسسي جذري.
- الطريق إلى الأمام: التنويع الاستراتيجي والإصلاح المؤسسي
لكي تنجح ليبيا في التحرر من دوامة التعافي الدوري المعتمد على النفط، لا بد من تبني استراتيجية طويلة الأمد تشمل:
• إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس من الشفافية والمساءلة وحكم القانون،
• وضع إطار موحد للتجارة والاستثمار،
• تقوية دور القطاع المصرفي وتوسيع الوصول إلى التمويل،
• دعم القطاعات التنافسية مثل الزراعة، اللوجستيات، والطاقة المتجددة.
فقط من خلال مثل هذه الخطة الشاملة والمبنية على المصالحة السياسية والإصلاح المؤسسي، يمكن تحقيق نمو مستدام، وتمكين القطاع الخاص، وتقليص الاعتماد المفرط على النفط.