“الشحومي”: الإصلاح لا يكتمل دون الاعتراف بالأخطاء والمطلوب إعادة بناء المصرف المركزي كمؤسسة مستقلة ووضع ميزانية موحدة
كتب : منذر الشحومي / الخبير المصرفي والمالي
في زحام النقاشات حول انهيار الدينار الليبي وما يرافقه من ارتباك اقتصادي، يطل علينا بعض المسؤولين وكأنهم ملائكة الخلاص، بينما يتناسى الجميع أننا أمام إرثٍ ثقيل من الفشل وسوء الإدارة.
قيادة المصرف المركزي السابقة لعبت دورًا محوريًا في تقويض المؤسسات وتكريس الانقسام، حين انحازت إلى معسكر سياسي على حساب المصلحة الوطنية، فبدلاً من أن يكون المصرف المركزي مؤسسة محايدة تحمي قيمة العملة وتراقب السياسة المالية، تحول إلى أداة في صراع سياسي، الأمر الذي شق البلاد إلى مصرفين متنافسين يطبع كلٌ منهما عملة ويمول حكومته الخاصة .
وما يزيد من الاستياء أن القيادة الحالية تعيد تدوير الرواية نفسها، وترمي بفشلها في دعم الدينار على “السياسات النقدية للفرع الشرقي” خلال فترة الانقسام، نعم، طبع الفرع الشرقي نقودًا في روسيا، لكن هذا الرقم ضئيل مقارنة بالسيولة التي ضخها المصرف المركزي نفسه عبر “خلق نقود رقمية” وتمويل إنفاق الحكومات دون غطاء حقيقي.
تقرير البنك الدولي يُظهر أن النقد خارج البنوك ارتفع من أقل من ثلاثة مليارات دينار عام 2004 إلى أضعاف مضاعفة بدون أي زيادة ملحوظة في الإنتاجية او الناتج العام المحلي، ما يعني أن المشكلة أعمق من “عملة مطبوعة في روسيا”، الأزمة تتعلق بثقافة الإنفاق الارتجالي والعجز عن التوصل إلى ميزانية موحدة؛ إذ اضطرت الحكومات إلى اتفاقيات مالية غير رسمية، وأصبح المصرف المركزي هو من يحدد سقف الإنفاق عبر التحكم في النقد الأجنبي.
من جهة أخرى، جمد المصرف المركزي العمل بأدوات التحويل الاعتيادية وفرض قيودًا بيروقراطية خانقة على فتح الاعتمادات وتحويل العملة الصعبة، متذرعًا بمحاربة المضاربة وغسل الأموال. تلك القيود لم تؤدِ إلا إلى ازدهار السوق الموازية؛ فالإجراءات المعقدة وضريبة الصرف المرتفعة دفعت الشركات إلى اللجوء للسوق السوداء.
وبدلًا من معالجة جذور الأزمة، عمد المصرف المركزي إلى تهميش البنوك التجارية وتحويلها إلى مجرد “نوافذ إدارية” تصدر اعتمادات بأمره، بينما تعتمد أرباحها على عمولات بيع العملة الأجنبية، هذه السياسات غير الرشيدة قضت على ثقة المواطنين في النظام المصرفي وزادت من اكتناز السيولة خارج البنوك.
الأخطر من ذلك أن المصرف المركزي، تحت مسمى “الإصلاح”، بدأ يمارس مهامًا ليست من اختصاصه: فأصبح يحدد سقف الإنفاق الحكومي كأنه وزارة مالية، ويفرض شروطًا على التجارة كأنه وزارة تجارة، بل وأدار منصة لتوزيع العملة الصعبة أشبه بمكتب صرافة. استخدام سلطة الرقابة لتسيير عمليات تجارية وتمويلية يناقض جوهر دور المصرف المركزي، الذي يجب أن يركز على الاستقرار النقدي والرقابة المصرفية لا على إدارة الاعتمادات وتقرير من يحصل على الدولار. إن إعادة البنك إلى وظيفته التنظيمية والإشرافية ضرورة لإعادة الثقة في النظام المالي.
إن الحديث عن الإصلاح لا يكتمل من دون الاعتراف بالأخطاء والفساد الذي غذى هذه الأزمة، والمطلوب هو إعادة بناء المصرف المركزي كمؤسسة مستقلة، ووضع ميزانية موحدة شفافة، وإلغاء الضرائب غير المجدية على العملات الأجنبية، وإعادة البنوك إلى دورها الطبيعي كشريك في التنمية لا كمنفذ لشروط المصرف المركزي، وبدون هذه الإصلاحات الجذرية، سيظل الدينار رهينة للقرارات الارتجالية، وستبقى السوق السوداء هي الملاذ لكل من يريد ممارسة التجارة والاستيراد او حتي الاستخدام الشخصي في ليبيا.