“محمد الشحاتي”: الاحتمالات الليبية لموازنة سنة 2026
كتب الخبير الاقتصادي محمد الشحاتي
الاحتياطي، إدارة الدين العام، سعر النفط، وسعر الصرف: المفاتيح الاقتصادية لموازنة سنة 2026.
الجزء الثاني: الاحتمالات الليبية لموازنة سنة 2026.
تناولت في المقال السابق السياسات المالية للدول النفطية في إعداد موازنات سنة 2026، وخاصة ما يتعلق بافتراض سعر النفط وكيفية التعامل مع العجز المتوقع نتيجة لتراجع الأسعار إلى حدود 60 دولارًا للبرميل، وهو سيناريو مرجّح في ضوء أوضاع السوق العالمية وتباطؤ الطلب.
في هذا المقال، أحاول أن أقدّم قراءة للوضع المالي الليبي من زوايا متعددة – سياسية واقتصادية ومالية ونفطية – لأبيّن أهمية وضع مخطط موازنة حكومية واقعية لعام 2026، حتى لو لم تُعتمد رسميًا، لما لذلك من دور في إعادة الانضباط المالي وإيضاح الاتجاهات العامة أمام صناع القرار.
أولاً: المأزق السياسي والإداري لغياب الموازنة
من الناحية السياسية، تدخل ليبيا عامها الثالث عشر دون موازنة حكومية أو ميزانية ختامية بسبب الانقسام المؤسسي. وقد فشلت كل المحاولات السابقة لإقرار موازنة نافذة لسنة 2025، نتيجة اعتراضات من السلطات المنقسمة وتباين موقف مصرف ليبيا المركزي. ويدور الجدل اليوم حول جدوى إصدار موازنة جديدة في ظل الانقسام القائم، بين من يرى أن المحاولة ضرورية لتقنين الإنفاق، ومن يخشى أن تزيد من تفاقم الانقسام، وأنه من الأفضل الانتظار لحين تحقيق تسوية سياسية ترعاها الأمم المتحدة.
ثانيًا: التحدي المالي والمحاسبي
من الناحية المحاسبية، تعاني ليبيا من انقطاع تسلسل الموازنات وغياب الحسابات الختامية منذ عام 2014، ما يجعل من الصعب قياس الانحرافات بين الإيراد والإنفاق أو تحديد الفوائض والعجوزات المتراكمة.
ومع أن تقديرات الإنفاق تصعد من القاعدة الإدارية إلى القمة عبر طلبات الجهات التنفيذية، فإنها تفتقر إلى رؤية كلية توفّق بين المطالب القطاعية وإجمالي القدرات التمويلية، مما يجعل إعداد موازنة شاملة أمرًا محفوفًا بالصعوبات.
وفي الظروف الحالية، وبعد فترات طويلة من العجز المالي، فمن الواجب أن يتم تحديد سقوف إنفاقية صارمة، وإلزام الوحدات الإدارية – من دون الإضرار بها – بترشيد سلوكها المالي حتى تتجاوز الدولة الأزمة الحالية.
ثالثًا: العجز المالي والدين العام
منذ عام 2014، نشأ العجز المالي نتيجة عاملين أساسيين:
الإغلاقات النفطية التي أوقفت تدفق الإيرادات.
الانخفاض الحاد في الأسعار العالمية خلال فترة حرب الأسعار بين أوبك والمنتجين المستقلين.
ورغم أن بعض المسؤولين اعتبروا أن تخفيض سعر صرف الدينار عام 2021 أدى إلى تصفير الدين العام، إلا أن هذا الاعتقاد لا يصمد محاسبيًا. فالعجز لا يُمحى بتغيير السعر الاسمي للعملة، حتى من الناحية التاريخية، لأن الدين العام الحقيقي هو ما ترتب عن إقراض المصرف المركزي للحكومة أو إصدار أدوات استدانة.
تُقدّر الحسابات أن العجز المتراكم على مصرف ليبيا المركزي – فرع طرابلس – بلغ نحو 145 مليار دينار، بينما بلغ لدى فرع بنغازي 104 مليارات دينار، أي ما مجموعه 259 مليار دينار. غير أن الدين العام الموثق لا يتجاوز 144 مليار دينار، لأن جزءًا من العجز جرى تمويله مباشرة من الاحتياطي أو بوسائل غير ائتمانية.
وتوضح هذه الفروق غياب الإطار المحاسبي الموحد الذي يُفترض أن يوجّه السياسات المالية المقبلة.
رابعًا: السعر التعادلي للنفط واحتمالات العجز
لم ينشر صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر في أكتوبر 2025 بيانات محدثة للسعر التعادلي للنفط في الدول النفطية، إلا أن تقرير أبريل السابق قدّر السعر التعادلي لليبيا في 2025 بنحو 75 دولارًا للبرميل، وهو رقم منخفض لأنه اعتمد فقط على إنفاق حكومة الوحدة الوطنية دون احتساب إنفاق الحكومة الموازية.
وبناءً على تحليل كمي مستقل يأخذ في الاعتبار سعر الصرف الرسمي ومستوى الإنتاج المتوقع (1.4 مليون برميل يوميًا) والإنفاق الإجمالي للحكومتين، يمكن تقدير السعر التعادلي في 2026 عند نحو 80 دولارًا للبرميل.
وهذا يعني أنه مع توقع تراجع الأسعار العالمية إلى حدود 60 دولارًا في سنة 2026، فإن العجز سيبلغ نحو 20 دولارًا للبرميل.
خامسًا: المدى الزمني للموازنة وضوابط التوسع والانكماش
تاريخيًا، تتحرك الموازنة العامة بين مدى أعلى وأدنى محكومين بمستوى الإيرادات النفطية والقدرة الاستيعابية للاقتصاد. فخلال فترات الوفرة، لا ينبغي التوسع في الإنفاق بما يتجاوز هذا المدى، لأن الاقتصاد المحلي لا يستطيع امتصاص الإنفاق الزائد دون خلق تضخم أو اختلالات سعرية. وعليه، يجب أن يُوجّه الفائض إلى الاحتياطي كمجنب استراتيجي.
أما عند انخفاض الأسعار، فينبغي أن تستمر الدولة في الإنفاق على الحدود الدنيا للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي، حتى لو اقتضى الأمر السحب المؤقت من الاحتياطي أو الاقتراض الداخلي، لكن بشرط أن يكون ذلك ضمن خطة واضحة للاستدانة وآليات السداد، وهو ما تفتقر إليه ليبيا منذ سنوات.
سادسًا: ترشيد الإنفاق وتقديرات الدخل في 2026
في ضوء الأرقام المتاحة، سيبلغ الدخل النفطي المحول إلى المصرف المركزي عند سعر 60 دولارًا للبرميل نحو 2.2 مليار دولار شهريًا، يُخصم منها 630 مليون دولار لتغطية مخصصات المحروقات، فيتبقى نحو 1.6 مليار دولار شهريًا فقط لتغطية الإنفاق العام.
أما النفقات المتوقعة للحكومتين فتبلغ نحو 160 مليار دينار سنويًا وفق تقدير عقلاني، تتوزع تقريبًا على النحو التالي:
• 70 مليار دينار للمرتبات،
• 15 مليارًا للتشغيل،
• 40 مليارًا للتنمية،
• 35 مليارًا لبنود أخرى.
بناءً على ذلك، فإن السعر التعادلي الأساسي يُقدّر بنحو 80 دولارًا للبرميل.
سابعًا: حدود القدرة على تغطية المرتبات
يُستخدم أحيانًا التحذير من خطر العجز عن سداد المرتبات في حال تراجع الأسعار، لكن ذلك يحتاج إلى تدقيق واقعي.
عمليًا، إذا لم يتم اللجوء إلى أي أدوات للاستدانة، فإن انخفاض سعر النفط حتى إلى 55 دولارًا سيقلّص الدخل الصافي إلى حوالي 96 مليار دينار سنويًا بعد خصم تكلفة المحروقات. وبما أن بند المرتبات وحده يبلغ 70 مليار دينار، فإن تغطيته لا تزال ممكنة، لكنها ستترك هامشًا محدودًا جدًا لبقية البنود.
لذا، فإن هذا التحذير يجب أن يُفهم كدعوة لتقليص الإنفاق غير الضروري أكثر من كونه تنبؤًا بعجز فعلي عن السداد، مع ضرورة الاستعداد بخيارات مثل الاقتراض المؤقت أو تأجيل الإنفاق الرأسمالي لحين تحسن الأسعار، ليس لتغطية الرواتب بل لتغطية أوجه الصرف الأخرى.
ثامنًا: الدين العام وهيكل الاستدانة الجديد
من البداهة أنه لا يمكن التعامل مع العجز الحالي باعتباره دينًا يمكن سداده في الأجل القصير، خصوصًا أن معظم العبء المالي قد تحمّله المواطن من خلال تخفيض سعر صرف الدينار، سواء عبر السعر الأساسي أو بإضافة رسوم على الصرف.
ففكرة استرداد العجز بكامله، بما في ذلك ما سُحب من الاحتياطي، كانت تهدف إلى استعادة سعر الصرف القديم بطريقة “الزحف التدريجي”، لكنها اليوم غير واقعية. أما تسوية الدين العام فقط فستُسهم في استقرار الأوضاع النقدية دون أن تعيد الدينار إلى مستوياته السابقة.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى هيكل استدانة واضح تشارك في وضعه السلطة التنفيذية مع المصرف المركزي والسلطة التشريعية، لتحديد كيفية إقراض الدولة وآلية السداد الزمنية، ومنع تكرار نمط التمويل غير المنضبط الذي أدى إلى تضخم الدين العام.
ويجب أن يُفهم أن هيكل الاستدانة لا ينحصر في الاقتراض النقدي فقط، بل يمتد إلى اتفاقيات مقاسمة الإنتاج النفطي. ففتح القطاع النفطي أمام الشركات الأجنبية أو المحلية هو نوع من الاستدانة، ويجب معاملته محاسبيًا واقتصاديًا بتطبيق مبدأ التعادل – أي قياس جدواه وفق سعر الفائدة العالمي وتوقعات أسعار النفط طويلة الأجل – لتحديد نسب المشاركة. فإذا كانت المصلحة الوطنية أعلى من العائد المتوقع من الشراكة، فلا مبرر لمثل هذه الاتفاقيات.
وقد كتبت فيما مضى أن أغلب الدول النفطية مثل السعودية والإمارات والجزائر والكويت تفادت العجز المتوقع عبر طرح سندات دولارية محلية لتغطية الفجوة بين السعر التعادلي وسعر السوق المتوقع لعام 2026. ويمكن من حيث المبدأ التفكير في آلية مشابهة في ليبيا، لكنها تحتاج إلى تخطيط دقيق لتحديد كيفية التحصيل والتخصيص وتكاليف التمويل، لأن تكلفة هذه السندات لا يجب أن تقل عن سعر الفائدة السائد على الدولار، مع ضرورة تحديد أوجه صرفها بدقة لتجنب الهدر في مصاريف غير ضرورية.
تاسعًا: الإجراءات المساندة – من السياسة النقدية إلى الإصلاح المؤسسي
في سياق معالجة العجز وضبط الدين، على المصرف المركزي أن يوازن بين استقرار العملة والمحافظة على السيولة. فقد أدى سحب 50 مليار دينار من التداول دون بدائل نقدية إلى اضطراب السيولة وتراجع القدرة الشرائية، رغم أن الأثر النظري للعملية انكماشي لا تضخمي.
كما أن التحول نحو الدفع الإلكتروني يجب ألا يُطرح كبديل اضطراري في ظل شح النقد، بل كمشروع هيكلي يحتاج إلى بيئة مصرفية مستقرة وربط بأنظمة ائتمان دولية تعزز الثقة والاستدامة التقنية.
عاشرًا: نحو رؤية واقعية لموازنة 2026
يتضح من كل ما سبق أن أي موازنة تُعد لسنة 2026، إذا افترضت سعرًا للنفط عند 60 دولارًا، ستسجل عجزًا محققًا يمثل استمرارًا للعجز الماضي لا قطيعة معه. لذا، لا يمكن معالجة الوضع بالإنكار أو بسياسات التوسع غير الممول، بل بإنشاء هيكل تمويلي منضبط يحدد العلاقة بين المصرف المركزي والدولة، ويعيد تعريف حدود الإنفاق بما يتناسب مع الإيرادات الواقعية.
كما يجب أن تعيد السلطات التفكير في تخفيض السعر التعادلي للموازنة من مستواه الحالي البالغ 90 دولارًا إلى مستوى أكثر واقعية عبر ترشيد الإنفاق وتحسين الكفاءة، لأن بقاء الموازنة عند هذا السقف يعني استمرار العجز حتى مع أي تحسن طفيف في الأسعار.
الخلاصة النهائية
إن موازنة ليبيا لعام 2026 ليست مجرد وثيقة مالية، بل هي اختبار سياسي لإرادة الدولة في استعادة انضباطها المؤسسي. فالاحتياطي النفطي والدين العام وسعر الصرف وسعر النفط تشكل منظومة مترابطة لا يمكن إدارتها بالقرارات الجزئية.
ولذلك، فإن النجاح في إعداد موازنة واقعية يتوقف على توحيد المؤسسات المالية، وضبط الإنفاق المزدوج، وتأسيس هيكل استدانة منضبط، مع الإبقاء على الاحتياطي كصمام أمان للأجيال المقبلة.
وفي النهاية، إن تحقيق الاستقرار المالي في ليبيا لا يحتاج إلى معجزة اقتصادية، بل إلى قرار موحد يضع الاقتصاد فوق الانقسام السياسي.
