Skip to main content
|

“من الإصلاح إلى التحول الاستراتيجي” .. “الهادي عبدالقادر” يقدم مقترحا لخريطة استثمارية لليبيا

كتب: الهادي عبد القادر/ مستشار الشؤون العامة لوزارة الاستثمار بالحكومة الليبية

لكي نخوض في تحليل معمق ومنفتح للخريطة الاستثمارية المقترحة، لا كمجرد خطة تقنية، ولكن كرؤية تحويلية لتاريخ ليبيا الاقتصادي. هذا التحليل سينطلق من القراءة بين السطور للسياق الليبي، ويبني عليها لطرح أفكار استباقية.

التحليل الشامل: من الإصلاح إلى التحول الاستراتيجي

لا يمكن فهم أي خطة استثمارية لليبيا بمعزل عن واقعها. لذلك، سنحلل الخريطة عبر عدة مستويات:

  1. السياق الليبي: التشخيص الجراحي للواقع

· تحديات نظامية عميقة: المشكلة ليست فقط في غياب الاستراتيجيات، بل في “تفتت السيادة”. وجود حكومتين ومؤسسات منقسمة يعني غياب “صانع القرار النهائي” الموثوق به، مما يلغي عنصر “الأمن والضمان” من جذوره. أي خطة يجب أن تبدأ بآلية للحوكمة العابرة للسلطات (مثل هيئة مشتركة للإشراف على الاستثمار ذات تمثيل دولي).
· التركيبة النفسية-الاجتماعية: سنوات من الصراع خلقت مجتمع “الغنيمة” بدلاً من مجتمع “الإنتاج”. ثقافة الريع النفطي طمست ثقافة المخاطرة الاستثمارية والإبداع. الخريطة يجب أن تتضمن “مشروعًا ثقافيًا موازيًا” لترويج قيم الإنتاجية والشفافية والمساءلة.
· الأزمة ليست مالية بل هي أزمة ثقة: رأس المال الحقيقي ليس الأموال المجمدة، بل “رأس المال الاجتماعي” والثقة المفقودة بين الدولة والمواطن، وبين ليبيا والمستثمر العالمي.

  1. تحليل الركائز المقترحة: من النظري إلى التطبيقي العميق

· الإطار الاستراتيجي الموحد (رؤية ليبيا 2035):
· التحدي: خطر أن تبقى “وثيقة جميلة” على الرف. دمج الرؤى المحلية (بنغازي 2030، الجنوب 2030) ليس مجرد توحيد، بل هو عملية “تفاوض وتنازل” بين المناطق. يجب أن تُبنى على “ميثاق وطني اقتصادي” يحدد كيفية توزيع الثروة والاستثمارات بشكل عادل لتحقيق التماسك الوطني.
· التحول المطلوب: الانتقال من “رؤية مركزية” إلى “منصة إستراتيجية”. أن تكون الإستراتيجية إطارًا مرنًا (Platform) تسمح للمحافظات بتطوير مشاريعها الخاصة (Plug-ins) مع الالتزام بمعايير وطنية موحدة (الحوكمة، الشفافية، الإبلاغ).
· تعزيز الحوكمة وإدارة المخاطر:
· ما بعد النماذج النظرية: تطبيق “الذكاء المالي” و”نماذج التحليل المالي” لا يعني فقط استخدام تقنيات متطورة، بل يعني تبني “الاستشراف التنبؤي” (Predictive Analytics). استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الضخمة لتوقع مسارات الاقتصاد، وتقييم المخاطر الجيوسياسية، واكتشاف أنماط الفساد قبل حدوثها.
· الدفاع القائم على القيمية المتأصلة: هذا هو جوهر التحول. لا يكفي أن تكون القيم مكتوبة، بل يجب “تشفيرها” في الأنظمة:
· الشفافية: نشر جميع عقود الاستثمار بشكل مفتوح (Open Contracting).
· المساءلة: ربط تدفقات الأموال بنتائج ملموسة يمكن للمواطن رصدها (ربط الإنفاق على مستشفى بانخفاض معدل الوفيات في منطقة ما).
· العدالة: تصميم آليات تضمن أن تستفيد المناطق المهمشة تاريخيًا (جنوب ليبيا، بعض مناطق الغرب) بشكل واضح وعادل من عوائد الاستثمار.
· تمكين القيادات واستشراف المستقبل:
· قيادات الصف الثاني: “مشروع النخبة الوطنية”: الفكرة ليست فقط في التدريب، بل في “صناعة نخبة جديدة”. برنامج وطني لاختيار الكفاءات الشابة (تحت 40 عامًا) من جميع المناطق، وإخضاعهم لبرنامج مكثف بالشراكة مع أفضل الجامعات ومراكز الفكر العالمية، مع “تجنيدهم” في مشاريع وطنية حرجة بعد تخرجهم. هذا يحل مشكلة استنزاف الأدمغة ويبني شبكة قيادية موحدة.
· استشراف المستقبل: لا يعني فقط توقع الاتجاهات، بل “صناعة المستقبل المفضل”. استخدام منهجيات مثل “السيناريو بلاننج” (Scenario Planning) لتصميم مستقبلات بديلة لليبيا (دولة ريعية، دولة صناعية، دولة لوجستية، دولة تعليمية) والعمل الاستباقي لتحقيق أفضل سيناريو.

  1. الإجراءات والضوابط: هندسة النظام المنيع

· نظام السجل الرقمي الفعال: يجب أن يكون هذا النظام “عمودًا فقريًا رقميًا” (Digital Backbone) يربط جميع الجهات:
· ربط البيانات: ربط بيانات المصرف المركزي، والمؤسسة الليبية للاستثمار، والجهاز المركزي للمحاسبات، والجمارك، والضرائب.
· العقود الذكية: استخدام تقنية “بلوكتشين” لتسجيل العقود والمعاملات الكبرى، مما يجعلها شفافة ولا رجعة فيها، ويقلل مساحات الفساد.
· منصة الاستثمار الموحدة (One-Stop Shop): منصة رقمية واحدة تتيح للمستثمر (المحلي والأجنبي) إنشاء شركة، الحصول على تراخيص، دفع ضرائب، والإبلاغ عن المشاكل، بشكل كامل.

الرؤية التحويلية: من دولة هشة إلى “دولة منصة”

الخريطة النهائية يجب أن تتطلع إلى تحويل ليبيا من دولة مركزية هشة إلى “دولة منصة” (Platform State):

· ليبيا كمنصة لوجستية: الاستثمار في الموانئ والمطارات والطرق لربط أفريقيا بأوروبا.
· ليبيا كمنصة طاقة خضراء: الاستثمار في الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية للتصدير، وليس فقط النفط والغاز.
· ليبيا كمنصة استثمارية: استخدام جزء من الأرصدة المجمدة والعوائد النفطية لإنشاء “صندوق ثروة سيادي” يصبح هو نفسه مستثمرًا في أفريقيا والعالم، وليس فقط مديرًا للأموال.

الخلاصة: استراتيجية “النجم القطبي”

في ظل عدم الاستقرار الحالي، يجب أن تكون الخريطة الاستثمارية مثل “النجم القطبي” – ليس بالضرورة أن نصل إليه اليوم، لكنه يعطينا اتجاه سير ثابت ومشترك.

· الهدف القصير المدى: ليس تحقيق جميع الأهداف، بل “كسب الثقة”. تحقيق مشروعين أو ثلاثة “كاسحين للثقة” (Quick Wins) في مناطق مختلفة، وإدارتها بشفافية مطلقة، لإثبات جدوى النهج.
· الهدف المتوسط: “بناء المنظومة” – النظام الرقمي، أطر الحوكمة، الكفاءات البشرية.
· الهدف الطويل: “التحول الاقتصادي” – من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج والخدمات القائمة على المعرفة.

هذا التحليل يحول الخريطة من قائمة أمنيات إلى خارطة طريق عملية ومتحركة، تعترف بالتحديات ولكنها تقدم إجابات استباقية وعميقة، وتضع ليبيا على مسار التحول من دولة منهكة إلى دولة فاعلة في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.

مشاركة الخبر