Skip to main content
|

“حلمي القماطي” يكتب: تحليل مؤسسي لظاهرة تهميش خريجي الاقتصاد لصالح الماليين في ليبيا

كتب: د. حلمي القماطي – أستاذ الاقتصاد

ما يحدث في ليبيا اليوم لا يمكن اختزاله في سوء توظيف أو أخطاء تقديرية في التعيينات بل هو نتيجة تشوه مؤسسي طويل تراكم حتى أصبح الاقتصاد بلا اقتصاديين.

فالتخصص الذي يفترض أن يقود تفكير الدولة ويهندس سياساتها بات يقف على الهامش بينما يتصدر المشهد منطق الحسابات والصرف دون رؤية تحليل اقتصادي.

1/ جوهر المشكلة ؛؛ سوق العمل الليبية لم تعد تقرأ شهادة الاقتصادي كوثيقة تشير إلى القدرة على التشخيص والتحليل وصناعة السياسات بل تحولت الوظائف الاقتصادية إلى امتداد للمهنة المالية والمصرفية.

هكذا تم اختطاف دور الاقتصادي ليس بفعل قوة مهنية عادلة، بل بفعل غياب ضوابط تحمي حدود التخصص.

هذه الظاهرة خلقت وضعاً غير متناظر “كوادر مالية تموضع نفسها كمحلل ومشرّع ومخطط اقتصادي”، بينما يتم تهميش من درسوا الاقتصاد فعلاً.

2/ لماذا حدث ذلك؟

لأن السوق فشل في إرسال إشارة صحيحة حول القيمة الوظيفية للمتخصص الاقتصادي. الشهادة لم تعد تكفي والمهنة غير محمية واللغة المؤسسية تسوّق أي موظف مصرفي كخبير اقتصاد في غياب معايير تمنع ذلك.

في المقابل؛ آليات الاستحواذ المؤسسي عملت بفعالية حيث تم ملء مراكز التحليل الاقتصادي بخبرات مالية تشغيلية، لأن المؤسسات تبحث عن الوظيفة الأسرع لا العقل الأعمق.

3/ منطق السوق لا يرحم حيث المؤسسات تميل إلى توظيف من يستطيع “القيام بالعمل الآن” حتى لو كان العمل حسابياً لا اقتصادياً.

بينما خريج الاقتصاد يحتاج مساحات للتدريب وأدوات تحليل وفرصة لصقل مهاراته التطبيقية وهذه المساحات غير موجودة فكان الحل الأسهل

إقصاؤه أو تهميشه ثم استبداله بمنطق التشغيل المحاسبي.

4. التكلفة الحقيقية لهذه الظاهرة ؛؛ ما خسرته ليبيا ليس فقط فرص عمل لخريجي الاقتصاد، بل خسرت قدرتها على التفكير الاقتصادي وعلى تقييم سياساتها بتوازن وهيكلة وعلى صناعة قرار قائم على تحليل لا على انطباع.

أصبحت المؤسسات المالية تصمم سياسات الاقتصاد الكلي بناء على حسابات لا على نماذج تنمية، وبالتالي نُفّذت سياسات بدون عقل اقتصادي فكانت النتائج كارثية على التضخم وسعر الصرف والاستثمار وسلوك السوق.

5/ كيف يمكن إصلاح المسار؟

الحل ليس شعاراً ولا مطالبة مجردة بإعادة التوظيف بل يتطلب أربع خطوات جوهرية:

الأولى :- استعادة تعريف “الوظيفة الاقتصادية” عبر توصيفات معيارية تحصر تحليل الاقتصاد في من تلقى تأهيلاً اقتصادياً.

ثانياً:- ميثاق مهني للاقتصاديين مشابه لما يملكه المحاسبون والماليون يحدد من هو الاقتصادي ومن ليس كذلك.

ثالثاً:- تجديد المناهج بحيث لا تبقى نظرية بل تتضمن مهارات تحليل البيانات وتصميم السياسات والدراسات التطبيقية.

رابعاً:- ربط الجامعات بسوق العمل من خلال تدريب حقيقي داخل المؤسسات الاقتصادية لا تدريب شكلي.

يا سادة الاقتصادي ليس موظف ميزانية؛ بل عقل يقرأ الظواهر ويقيس الأثر ويصنع الاتجاه، وعندما يغيب هذا العقل عن مواقع القرار تصبح السياسات عمياء مهما كانت الأرقام مرتبة في دفاترها.

لذلك فإن إعادة تموضع خريجي الاقتصاد ليست دفاعاً عن فئة معينة، بل دفاعاً عن وظيفة التفكير الاقتصادي في الدولة.

وإذا لم تُستعد هذه الوظيفة عبر حماية مهنية وتطوير أكاديمي جيد وتفعيل مؤسسي سيظل الاقتصاد الليبي بلا عقل اقتصادي يقوده.

مشاركة الخبر