كتب: د. حلمي القماطي – أستاذ الاقتصاد
رغم توقعات مبدئية بأن قرب انتهاء مهلة قبول فئات نقدية (20، 5 دينار) سيدفع جزءاً من السيولة المتداولة إلى سوق العقار كملاذ لحفظ القيمة فإن السوق شهد ركوداً واضحًا. السبب ليس عنصرًا منفردًا (كالسحب نفسه) بل مزيج من عوامل هيكلية ونقدية وتمويلية وقانونية أدت إلى امتصاص أو إعادة توجيه تلك السيولة بعيدًا عن العقار. المؤشرات الرسمية وبيانات السوق تدعم هذا التقييم.
1) ما الذي كان متوقعًا نظريًا؟
عند صدور قرار بسحب فئات نقدية محددة من التداول تُولد توقعات سلوكية فأصحاب السيولة يسرعون لتحويل النقود القابلة للاستهلاك إلى أصول قابلة للحفظ (عقار، ذهب، عملة أجنبية).
هذا توقع سلوكي معياري لكنه يعتمد على حجم السيولة المتأثرة ومدى سهولة تسييل الأصول وثقة السوق وتوفر بدائل استثمارية وسيولة مصرفية.
2) لماذا لم يحدث ذلك عمليًا في ليبيا؟
الأسباب الرئيسية
1.حجم النقد المتداول وتوزيعه والسيولة المصرفية
إجراء السحب شمل دفعات محددة وفترات زمنية؛ والمصرف المركزي أعاد التأكيد على مواعيد التسليم والإيداع لدى البنوك (المهلة النهائية كانت محددة بنهاية سبتمبر 2025). لكن النقد المتداول الكلي في الاقتصاد أكبر بكثير من نسب الفئات المسحوبة، لذا أثرها على إجمالي السيولة المتاحة للاستثمار العقاري كان محدوداً.
2.غياب التمويل العقاري المنظم
قطاع الإقراض العقاري عمليًا ضعيف نسبة الرهون العقارية إلى الناتج منخفضة والقروض العقارية التقليدية شبه غائبة ما يعني أن معظم المشترين يحتاجون إلى تدفقات نقدية كبيرة مقدمة لشراء عقار.
هذا يرفع حاجز الدخول إلى السوق ويحدّ من الطلب حتى عند توفر بعض السيولة المحلية.
3.انخفاض القوة الشرائية الحقيقية وارتفاع الأسعار النسبية للعقار
متوسط الدخول الحقيقية لا يتناسب مع أسعار العقارات في المدن الرئيسة كما أن الارتفاع العام في تكاليف المعيشة قلّص مدخرات الأسر القابلة للاستثمار في العقارات.
بيانات أسعار المنازل والمؤشرات الدولية تُظهر استقرارًا أو تراجعًا طفيفًا فعليًا بعد ضبط التضخم النسبي.
4.البدائل الاستثمارية والسيولة الموجهة إلى قنوات أخرى
كثير من أصحاب الأموال فضلوا إما إيداع المبالغ في البنوك (لتفادي فقدان القيمة أو مشاكل قبول النقود لاحقًا) أو توجيهها لشراء ذهب/سيولة أجنبية/سلع قابلة للتداول أو نشاط تجاري.
كما أن عمليات الاستيراد والتجارة عادت لتكون قناة جاذبة للسيولة لدى التجار بسبب فروق الربح السريعة.
5.مخاطر الملكية والتسجيل والبيئة القانونية
ضعف نظم التسجيل العقاري ووجود نزاعات على الملكية في مناطق عدّة يرفع مخاطرة الاستثمار العقاري ويخفض الطلب المستثمر خصوصًا عندما تُقارن بملاذات أقل تعقيدًا مثل الذهب أو التحويل للخارج.
بالإضافة إلى ذلك تكاليف المعاملات (رسوم، ضرائب، تأمين) تجعل الانتقال إلى العقار أقل جاذبية.
3) مؤشرات رقمية أساسية تدعم التحليل
إعلان المصرف المركزي والجهات الإعلامية عن مواعيد قبول الفئات المسحوبة وحتى نهاية سبتمبر 2025 ما يدل على إطار زمني محدد لإجراءات السحب والإيداع.
نسبة الرهون والقروض العقارية إلى الناتج منخفضة (بيانات مؤسسات التخصّص تشير إلى أن قيمة الرهن العقاري المتداولة محدودة والمرجع الوطني يقدّر السقف بنحو 1%–1.5% بالعلاقة إلى الناتج). هذا يعني سوق رهن عقاري غير ناضج.
مؤشرات أسعار العقارات وبيانات مواقع الأسعار تُظهر ثباتًا أو تراجعًا حقيقيًا في القيمة أو في حجم التداول في السنوات الأخيرة ما يقطع طريق الارتفاع السريع المتوقع في حال تدفق سيولة كبرى إلى السوق.
التطورات النقدية (تحركات سعر الصرف والسياسات النقدية الأخيرة بما في ذلك عمليات طباعة وإصدار أوراق نقدية جديدة العام السابق) أدت إلى تشويش في توقعات المستثمرين بشأن سعر الصرف والاحتفاظ بالقيمة، ففضّل كثيرون الحلول قصيرة الأجل.
لماذا الركود ليس مفاجئًا ؟
الركود العقاري رغم قرب مهلة سحب أوراق نقدية منطقي إذا أخذنا في الحسبان ضعف التمويل العقاري و ارتفاع حاجز الطلب مقارنةً بالدخل ومخاطر قانونية على الملكية وتفضيل المستثمرين لقنوات أكثر سيولة أو أقل مخاطرة. لذلك فإن مجرد نفاد أو سحب فئات نقدية قصيرة الأجل لا يكفي لوحده لتحفيز انتعاش عقاري مستدام.
