“حلمي القماطي”: المصرف المركزي ليس مقاولاً.. قراءة نقدية في قرار تمويل الإسكان بـ 5 مليارات دينار

كتب: د. حلمي القماطي / رئيس قسم الاقتصاد بجامعة بنغازي
بشأن قيام مصرف ليبيا المركزي بقرار إنفاق 5 مليار دينار على مشاريع إسكانية، فإننا نعرض فيما يلي قراءة تأخذ في الاعتبار الأطر المؤسسية لوظيفة المصارف المركزية، والاختصاصات المحددة قانونًا لمصرف ليبيا المركزي، إلى جانب مقتضيات الواقع الاقتصادي الليبي:
أولاً: من الناحية القانونية والدستورية
المادة 5 من قانون المصارف الليبي (القانون رقم1 لسنة 2005 بشأن المصارف) تُحدد اختصاصات مصرف ليبيا المركزي، وتشمل
1- إصدار النقد وتنظيم عرض النقود.
2- حماية القيمة الحقيقية للعملة الوطنية.
3- تنظيم السياسة النقدية للحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي.
4- الإشراف على الجهاز المصرفي ومراقبة الأداء الائتماني.
ولا تتضمن اختصاصاته تمويل المشاريع الإنتاجية أو الإنشائية أو الاستثمارية بشكل مباشر، إذ أن ذلك من اختصاص الحكومة وصناديق التنمية والاستثمار بموجب قوانين الميزانية العامة والتخطيط والمالية.
لذا، فإن إنفاق المصرف المركزي مباشرة على مشاريع إسكانية يمثل تجاوزًا لاختصاصه القانوني وخروجًا عن مهامه الأصلية المحددة بقانون المصارف وقد يُفقده استقلاليته ويُعرّضه لمساءلات قانونية.
ثانيًا: من الناحية الاقتصادية والنقدية
المصرف المركزي في أي اقتصاد هو “منظم السيولة” وليس “مستثمرًا مباشرًا”.
المشاركة المباشرة في تمويل مشروعات عقارية بمبلغ 5 مليار دينار:
أولاً تخلق اختلالًا في الميزان النقدي عبر زيادة ضخ الدينار دون غطاء حقيقي.
ثانياً ترفع الكتلة النقدية بما قد يؤدي إلى ضغوط تضخمية في ظل ضعف العرض الحقيقي من السلع والخدمات.
ثالثاً تمس بسلامة السياسة النقدية خاصة أن التمويل العقاري طويل الأجل بينما ودائع المصارف التجارية قصيرة الأجل؛ كما أشار الأستاذ الدكتور “محمد أبوسنينة”.
وهنا، فإن “القاعدة الذهبية للتمويل المصرفي” تقضي بـ: “مواءمة آجال الموارد مع آجال الاستخدامات”، أي أن التمويلات العقارية (طويلة الأجل) لا يجوز تمويلها من ودائع قصيرة الأجل دون تغطية رأس مالية كافية.
ثالثًا: المخاطر المؤسسية والحوكمة
كما أشار الدكتور “محمد أبوسنينة”؛ مساهمة المصرف المركزي في رأسمال صناديق استثمارية أو امتلاك مصارف تجارية هو خلل في الحوكمة ويفتح الباب لما يعرف بـ “المخاطر الأخلاقية” (Moral Hazard)، وهي:
أ- استعمال السلطة النقدية في توجيه التمويل لجهات بعينها دون معايير ائتمانية شفافة.
ب- التداخل بين السلطة التنظيمية (المركزي) والسلطة التنفيذية (الحكومة).
ج- خطر التسييس أو استغلال أدوات النقد لأغراض غير اقتصادية.
هذا يعاكس المبدأ العالمي لاستقلالية المصارف المركزية ويجعل المركزي طرفًا مباشرًا في مخاطرة لا يملك أدوات متابعتها التنفيذية كما تملكها الجهات التنفيذية أو صناديق الإعمار.
رابعًا: البدائل السليمة
في ضوء التجارب الدولية (مثل المغرب، تركيا، مصر، الأردن)، فإن أفضل البدائل تكون:
طرح مبادرة تنظيم تمويل الإسكان عبر المصارف التجارية بشروط فنية محددة:
سقف للقروض.
ضمانات واضحة.
ارتباط مباشر بالدخل الحقيقي للمقترض.
إشراف مركزي صارم على نسب التركز في المحافظ العقارية.
تحفيز صناديق الاستثمار العامة والخاصة على الدخول في مشاريع الإسكان، سواء عبر الصكوك أو أدوات الدين طويلة الأجل، وليس عبر تمويل مباشر من المصرف المركزي.
استخدام فائض الميزانية أو صندوق التنمية أو الفوائض النفطية كوسائل تمويلية عبر الخزينة العامة وليس عبر خلق عرض نقدي إضافي من المصرف المركزي.
ما أريد قوله ليس تحاملا أو من باب النقد لغرض النقد:
أن تمويل المصرف المركزي لمشاريع إسكان مباشرة يتعارض مع نصوص قانون المصارف ويخرق مبدأ استقلالية السياسة النقدية.
كذلك يمثل مخاطرة تضخمية غير محسوبة في اقتصاد هش يعاني أصلاً من تآكل قيمة العملة.
أيضاً البدائل موجودة: وهي سياسات ائتمانية موجهة عبر المصارف التجارية، أو تمويل غير مباشر عبر صناديق الاستثمار والإعمار.
وأخيراً وليس بأخر؛ المطلوب هو التكامل بين السياسات النقدية والمالية والتنموية، لا التشابك بينها.