“حلمي القماطي”: التداعيات النقدية والاقتصادية لاكتشاف زيادة غير مبرّرة في فئة العشرين دينار

كتب: د. حلمي القماطي – أستاذ الاقتصاد
في خطوة لافتة ومثيرة للجدل، كشف مصرف ليبيا المركزي في بيانه الأخير عن وجود زيادة غير مبررة في كمية الأوراق النقدية من فئة العشرين ديناراً تجاوزت ستة مليارات دينار، وهي زيادة لم تمر عبر القنوات الرسمية المعتمدة في إدارة الإصدار.
ورغم أن البيان جاء في إطار الشفافية وتوضيح الإجراءات المتخذة، إلا أن الأرقام المعلنة تفتح الباب أمام جملة من التساؤلات الجوهرية حول سلامة الرقابة النقدية، وحجم تأثير هذه الواقعة على الاستقرار المالي والسيولة المحلية.
أولاً: خلفية الواقعة
وفقاً للبيان، فإن الكميات المعتمدة للطباعة من فئة العشرين ديناراً كانت في حدود 13.4 مليار دينار، بينما أظهرت السجلات الفعلية وجود توريدات بلغت نحو 19.97 مليار دينار، أي بفارق يزيد عن 6.5 مليارات دينار لم تمر عبر الإجراءات القانونية أو الإشراف المباشر للمصرف المركزي.
وهذه الأرقام، إن صحت، تمثل خللاً حقيقياً في منظومة الإصدار النقدي التي تُعد من صميم اختصاص السلطة النقدية وحدها دون سواها.
ثانياً: الانعكاسات النقدية
من الناحية الاقتصادية، فإن أي زيادة في حجم الكتلة النقدية دون وجود مقابل إنتاجي حقيقي تؤدي إلى اتساع الفجوة بين العرض النقدي والسلعي، وهو ما ينعكس مباشرة في صورة تضخم وارتفاع في الأسعار، وتراجع في القوة الشرائية للدينار الليبي.
كما أن زيادة المعروض النقدي غير المنضبط تُربك السياسة النقدية وتجعل أدوات التعقيم أو امتصاص السيولة أقل فاعلية، خاصة في اقتصاد يعتمد على النقد الورقي بدرجة عالية وضعف التداول المصرفي.
إلى جانب ذلك، فإن مثل هذه الزيادات العشوائية في العملة تخلق تشوهات في بيانات النقد المتداول، مما يصعّب على المصرف المركزي تحديد الكتلة الفعلية في السوق، وبالتالي يُضعف من فعالية أدواته في إدارة السيولة أو التدخل في سعر الصرف.
ثالثاً: البعد الاقتصادي والاجتماعي
هذه الواقعة لا يمكن النظر إليها فقط من زاوية فنية، بل تمتد آثارها إلى ثقة الجمهور في العملة الوطنية. فحين يسمع المواطن أن مليارات من العملة طُبعت أو تم تداولها خارج السجلات الرسمية، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه هو فقدان الثقة في قيمة ما يحمله من نقود، ما يدفعه إلى تفضيل الاحتفاظ بالعملة الأجنبية أو الذهب.
وهذا السلوك، وإن كان دفاعياً من وجهة نظر الأفراد، إلا أنه يفاقم من ضغط الطلب على النقد الأجنبي، ويؤدي إلى مزيد من الاضطراب في سعر الصرف بالسوق الموازية، كما أن المصارف التجارية قد تجد نفسها أمام وضع مرتبك؛ فوجود عملة غير مطابقة أو مجهولة المصدر في التداول يخلق مخاطر تشغيلية ومحاسبية، ويزيد من صعوبة ضبط ميزانياتها النقدية اليومية.
رابعاً: البعد الرقابي والمؤسسي
من المؤكد أن ما حدث يُعدّ إخفاقاً رقابياً خطيراً يستوجب مراجعة شاملة لكافة حلقات إدارة النقد، بدءاً من عملية الطباعة وحتى التوزيع والسحب والإتلاف، فالإصدار النقدي يجب أن يخضع لنظام محكم من التوثيق والمطابقة بين المصرف المركزي والجهات المعنية، مع وجود رقابة خارجية فاعلة من الأجهزة المالية والرقابية في الدولة.
كما تفرض هذه الواقعة ضرورة الإسراع في تطوير منظومة الدفع الإلكتروني لتقليل الاعتماد المفرط على النقد الورقي، وهو الاتجاه الذي أصبح اليوم ركيزة أساسية في استقرار أي اقتصاد معاصر.
خامساً: البعد السياسي والاقتصادي الأوسع
لا يمكن إغفال أن مثل هذه التطورات تحدث في بيئة سياسية واقتصادية منقسمة، مما يزيد من صعوبة ضبط السياسات المالية والنقدية.
ومن ثمّ، فإن الحفاظ على وحدة المصرف المركزي وشفافية تعاملاته مع الجمهور والمؤسسات الدولية بات ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل.
كما أن مواجهة آثار هذه الواقعة تتطلب إرادة سياسية حقيقية لإعادة الانضباط المالي والنقدي، وتغليب المصلحة الاقتصادية على أي حسابات آنية أو مناطقية.