“الهادي عبدالقادر”: تحليل مُعمق ومفتوح في بيان رجل الأعمال “حسني بي” مع استخلاص الأسباب الكامنة وراء دعوته

كتب: الهادي عبد القادر/ مستشار الشؤون العامة لوزارة الاستثمار بالحكومة الليبية
يركز بيان “حسني بي” على جوهر الأزمة الليبية منذ عام 2014، وهي أزمة السيادة النقدية، وليس مجرد أزمة مالية أو سياسية عابرة. يمكن تفكيك تحليله على النحو التالي:
- تشخيص جذري للمشكلة: انقسام السلطة النقدية (2014)
· الحدث المؤسس: يعتبر بيان المصرف المركزي (في طرابلس) بشأن استبدال العملة هو الإجراء التصحيحي الأول الجريء منذ “انقسام السلطة النقدية عام 2014”. هذا يؤطر كل المشاكل اللاحقة على أنها نتاج لهذا الانقسام.
· التبعات الملموسة: يربط “حسني بي” بشكل مباشر بين هذا الانقسام و:
· إيقاف المقاصة المصرفية الوطنية (وهي عمود النظام المالي الفقري).
· إنشاء مقاصة موازية في الشرق.
· طباعة عملة غير خاضعة للرقابة في روسيا (وهو ما يمثل خروجاً على السيادة الوطنية).
- قراءة واقعية للبيانات: كشف “الحقيقة الإحصائية”
هنا يقدم”حسني بي” خدمة كبيرة للرأي العام بكشفه عن تناقضات البيانات الرسمية، مما يؤكد أن المشكلة ليست تقنية فقط بل هي أزمة مصداقية:
· انفجار العرض النقدي: نمو العرض النقدي بنسبة 300% في عقد واحد (من 69 إلى 186.9 مليار دينار) هو وصفة أكيدة للتضخم الجامح وانهيار قيمة العملة.
· تفاوت البيانات: الفروق في تقديرات العرض النقدي (19% نهاية 2024، 27% نهاية 2022) تثبت عدم وجود رؤية موحدة، وأن جزءاً كبيراً من الاقتصاد كان يعمل بمعزل عن الرقابة المركزية.
· كشف الحجم الحقيقي للعملة “الموازية”: الإعلان عن أن قيمة العملة المطبوعة في روسيا هي 30 وليس 20 مليار دينار (بفارق 10 مليارات) يسلط الضوء على حجم التمويل غير الخاضع للمساءلة الذي تم خلال سنوات الانقسام.
- فلسفة التغيير: “الانطلاق من حيث وصلنا، لا العودة إلى الوراء”
هذا هو الجزء الأكثر عمقاًفي البيان، حيث يقدم رؤية للمستقبل تتجاوز الماضي دون إنكاره:
· رفض النكوص: يرفض فكرة “العودة إلى ما قبل 2014” لأنه يعتبرها مستحيلة ومؤدية إلى “الركود والانهيار”. الواقع الجديد (بكل أخطائه) هو نقطة البداية.
· التوجه نحو المستقبل: دعوته إلى “ترك الماضي للمؤرخين والقضاء” هي دعوة عملية لعدم جعل الملفات القديمة رهينة للتجاذبات السياسية الحالية التي تعيق استقرار البلاد.
· الاعتراف كأساس للسياسات: يؤكد أن الاعتراف بالواقع المالي الحقيقي (حتى لو كان مراً) هو الخطوة الأولى والأساسية لوضع سياسات نقدية مسؤولة. لا يمكن علاج المرض دون تشخيص دقيق.
- الربط المباشر مع معاناة المواطن
يخرج”حسني بي” من الإطار النظري ليربط بشكل مباشر بين الخلل النقدي وحياة الناس: “أي خلل في البيانات أو السياسات النقدية ينعكس مباشرة على الاقتصاد الوطني وعلى المواطن الليبي من خلال التضخم وتراجع القوة الشرائية”. هذا يجعل من القضية النقدية قضية اجتماعية وأمن قومي.
الـ “لماذا”: الدوافع الكامنة وراء الدعوة
- الخوف من الانهيار الاقتصادي الكلي: الأرقام التي ذكرها (نمو النقد بنسبة 300%) هي مؤشرات على شفا هاوية تضخم هايبيري كما حصل في دول مثل فنزويلا أو زيمبابوي.
- إدراك أن الاستقرار السياسي يرتكز على الاستقرار المالي: لا يمكن بناء دولة أو تحقيق استقرار سياسي في ظل انهيار قيمة دخل المواطن ومدخراته.
- الرغبة في كسر حلقة مفرغة: الانقسام النقدي يؤدي إلى انقسام سياسي والعكس صحيح. توحيد السلطة النقدية قد يكون المدخل العملي لكسر هذه الحلقة.
- حماية الاقتصاد الوطني من التلاعب: طباعة عملة خارج السياق الرسمي ووجود مقاصة موازية يخلقان اقتصاداً ظلاً يسهل فيه غسيل الأموال وتمويل الأنشطة غير المشروعة.
الإجراءات والضوابط الأفضل لليبيا (بناءً على هذا التحليل)
يمكن صياغة خطة عمل بناءً على مضامين بيان “حسني بي” كالتالي:
أولاً: إجراءات فنية عاجلة (قصيرة الأجل)
- إتمام عملية استبدال العملة بشفافية كاملة:
· ضمان وصول العملة الجديدة لجميع المناطق دون تمييز.
· وجود آلية واضحة ومحددة الزمن لسحب العملة القديمة (الطرابلسية والروسية) بشكل كامل.
· استخدام تقنيات متطورة لمكافحة التزوير في العملة الجديدة. - توحيد النظام المصرفي والمقاصة:
· إعادة تفعيل “المقاصة المصرفية الوطنية” بشكل مركزي وفوري، وإلغاء أي شكل من أشكال المقاصة الموازية.
· توحيد بيانات الميزانيات العمومية للمصرف المركزي وفروعه في جميع أنحاء ليبيا. - الشفافية الإحصائية الفورية:
· إصدار تقرير اقتصادي ومالي موحد وشهري من قبل المصرف المركزي، يتم مراجعته من قبل جهة دولية محايدة (مثل صندوق النقد الدولي)، لنشر جميع بيانات العرض النقدي واحتياطيات النقد الأجنبي.
ثانياً: إجراءات هيكلية مؤسسية (متوسطة الأجل)
- إصلاح حوكمة المصرف المركزي:
· تشكيل مجلس إدارة للمصرف المركزي يمثل جميع المناطق الليبية، ويعمل على أساس الكفاءة والنزاهة وليس الانتماء السياسي أو الجهوي.
· إقرار قانون للمصرف المركزي يضمن استقلاليته الحقيقية مع خضوعه للمساءلة أمام البرلمان (عند قيامه). - وضع أطر للسياسة النقدية:
· اعتماد “استهداف التضخم” كهدف رئيسي للسياسة النقدية، مع تحديد معدل تضخم مستهدف واضح.
· وقف تمويل العجز في الميزانية عن طريق طباعة النقود (التمويل النقدي للعجز)، وهو السبب الرئيسي للتضخم. - إصلاح النظام المالي:
· تعزيز أنظمة الرقابة المالية على البنوك التجارية.
· تطوير أنظمة الدفع الإلكتروني لتقليل الاعتماد على النقد.
ثالثاً: ضوابط حاكمة (طويلة الأجل)
- الضبط السياسي:
· تغليب المصلحة الوطنية: يجب أن يكون هناك إجماع وطني بين جميع الأطراف السياسية على أن السلطة النقدية موحدة وغير قابلة للتجزئة. أي محاولة للعبث بهذا الملف يجب أن تواجه برفض شعبي وسياسي موحد.
· المحاسبة والشفافية: محاسبة جميع المسؤولين السابقين والحاليين عن أي تلاعب في البيانات أو إصدار عملة خارج الإطار القانوني، ليكون ذلك رادعاً للمستقبل. - الضبط الاجتماعي:
· التوعية الاقتصادية: قيام المصرف المركزي بحملات توعية للمواطن العادي لشرح السياسات النقدية وأثرها على حياته، لكسب التأييد الشعبي للإصلاحات.
· مشاركة المجتمع المدني: إشراك نقابات الاقتصاديين والمحاسبين والمجتمع المدني في مراقبة أداء المؤسسات النقدية. - الضبط الدولي:
· الاستعانة بالخبرة الدولية: التعاون مع مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليس للحصول على قروض، بل للحصول على المساعدة الفنية في بناء القدرات ومراجعة السياسات.
خلاصة:
بيان “حسني بي” هو أكثر من مجرد تعليق على تغيير العملة؛ إنه برنامج إصلاحي متكامل يبدأ من الاعتراف بالواقع المالي المرير، ويمر عبر توحيد السلطة النقدية كحجر أساس، وينتهي عند بناء مستقبل مستقر على أسس من الشفافية والمؤسسية والمصلحة الوطنية العليا. نجاح هذه الرؤية لا يعتمد على الجانب الفني فقط، بل على الإرادة السياسية والاجتماعية لتغليب مصلحة ليبيا فوق كل الاعتبارات.