Skip to main content
|

“الشحاتي” : دين عام خفي وسعر صرف مضطرب.. كيف تخفي السياسة النقدية أثر العجز المالي ويستمر المواطن في دفع سعر الفائدة

كتب: الخبير الاقتصادي “محمد الشحاتي”

يشيع في الخطاب المالي الليبي أن الإنفاق الحكومي هو السبب المباشر لانهيار قيمة الدينار وأن العجز المتراكم خلال سنوات الانقسام الحكومي ليس أكثر من رقم نظري تم “امتصاصه” عبر انخفاض سعر الصرف والتضخم، وبالتالي فإن قيمته الحالية تساوي صفراً ولا يستوجب أي اعتراف أو تسجيل كدين عام. هذا الطرح يبدو intuitively جذاباً للكثيرين لأنه يربط بين توسع الدولة في الإنفاق وبين تدهور القوة الشرائية، لكنه لا يصمد أمام التحليل الاقتصادي الصارم سواء من زاوية النظرية أو الوقائع الليبية نفسها.

النظرية الاقتصادية الحديثة، سواء في مدرسة ميزانية القطاع العام عند بارو أو في تحليلات العجز والدين عند وودفورد وسارجنت، لا تعتبر الإنفاق الحكومي بذاته قوة ضاغطة على العملة. فالتدهور في سعر الصرف لا يحدث إلا عبر قنوات محددة هي التوسع النقدي غير المعوّض، أو اختلال ميزان المدفوعات، أو تغير توقعات القطاع الخاص تجاه المستقبل. لذلك فإن القول بأن الإنفاق الحكومي هو السبب المباشر لانخفاض قيمة الدينار يختزل الظاهرة ويغفل أن المشكلة الأساسية في ليبيا لم تكن الإنفاق بحد ذاته، بل الطريقة التي جرى تمويله بها في ظل جهاز مصرفي غير قادر على امتصاص السيولة ونظام نقدي مشوّه يقوم على خلق النقود بدلاً من تدويرها.

العجز المالي الليبي تراكم خلال أكثر من عشر سنوات بسبب إنفاق حكومي تجاوز الإيرادات الفعلية، خصوصاً في سنوات 2014 إلى 2019 التي شهدت انهياراً حاداً في أسعار النفط متزامناً مع إغلاقات في التصدير. كان من الطبيعي أن يظهر هذا العجز في هيئة دين عام، غير أن الحكومات لم تصدر أي أدوات دين قابلة للتداول أو تسمح بقياس التكلفة الحقيقية للإنفاق. في المقابل قام المصرف المركزي بتغطية هذا العجز عبر خلق نقود جديدة واستخدام جانب من الاحتياطيات الأجنبية لتمويل الالتزامات الخارجية مثل الاعتمادات المستندية وتوريد الوقود. بذلك أعيد تكوين الالتزامات الحكومية في شكل نقدي لا دينِي، بينما أُبعدت بالكامل عن ميزانية الدولة.

الحجة المقابلة تقول إن هذا العجز اليوم “صفر” لأن الدولة لم تقترض فعلياً وأن المواطن هو من تحمل التكلفة من خلال انخفاض سعر الصرف وارتفاع الأسعار، وبالتالي فلا جدوى من تسجيل دين على الحكومة. غير أن هذا الطرح، رغم انتشاره، يتعارض مباشرة مع النظرية المالية الحديثة. فالنقود التي خُلقت لتمويل الإنفاق ليست بلا مالك، بل هي التزامات على الخزانة وإن لم تُسجَّل. كل إنفاق حكومي يولد منفعة عامة أو خاصة، من مشروعات طرق وإعمار إلى سلع وخدمات، وهذه المنافع هي المقابل الحقيقي للدين، ولا يمكن إلغاؤها أو الادعاء أنها لم تنتج تبعات مالية. المواطن دفع الفائدة على هذا الدين غير المسجل في شكل تضخم وتخفيض لقيمة مدخراته، لكن أصل الدين بقي قائماً على الخزانة لأنه مثّل تحويل موارد مستقبلية إلى حاضرة بلا مقابل تمويلي.

تؤكد النظرية الاقتصادية أن تسجيل العجز كدين عام ليس مسألة محاسبية بل ضرورة لضبط المالية العامة ولتوزيع العبء بين الحكومة والمجتمع بصورة عادلة ومستدامة. فالدين العام هو أداة لإعادة التوازن بين زمن إنتاج المنافع وزمن تمويلها، ومن غير المنطقي أن تستفيد الحكومات من الإنفاق بينما يُحمّل المواطن التكلفة وحده عبر التضخم دون اعتراف رسمي بالتزام الدولة. أما فكرة “تصفير الدين” فهي تناقض أساسي للنظرية الاقتصادية لأنها تنفي العلاقة بين الإنفاق والالتزامات الحكومية وتَعتبر التضخم وسعر الصرف بديلاً للدين، بينما الأخير في الاقتصاد الحديث لا يزول بمجرد تدهور قيمة العملة بل ينتقل من شكل صريح إلى شكل خفي يدفعه المجتمع.

تسجيل العجز كدين عام يفتح الباب أمام آلية دوران الدين حيث تدفع الحكومة الفوائد عبر دورة مالية واضحة تمكّن من إعادة توزيع العبء من المواطن إلى الدولة. فحين تُسجَّل الديون وتُدار عبر أدوات مالية شفافة، فإن تكلفة الفائدة تُموَّل من الموازنة لا من جيوب المواطنين عبر التضخم وهو ما يجعل أساس السياسة المالية أكثر تماسكاً ويعيد الانضباط والوضوح للعلاقة بين الحكومة والمصرف المركزي. أما تجاهل الدين فيعني استمرار المواطن في دفع الفائدة الحقيقية عبر التضخم طوال السنوات القادمة حتى يتم “تصفية” أصل الدين الخفي، وهو ما يعني فعلياً استمرار استنزاف القوة الشرائية وغياب أي مساءلة مالية عن الإنفاق السابق.

إن النقاش حول الدين العام في ليبيا ليس نقاشاً محاسبياً أو تقنياً بل نقاش حول العدالة الاقتصادية وتوازن الأعباء بين المجتمع والدولة. فالإنفاق الذي تحقق طوال سنوات الانقسام راكم منافع مادية وحقيقية، وهذه المنافع لها تكلفة، وهذه التكلفة يجب أن تُعترف وأن تُدار وأن تُوزع بصورة عادلة. تحميلها للمواطن وحده عبر التضخم وتدهور سعر الصرف يعني تكريس فقدان الثقة واستمرار التشوه، بينما تحويلها إلى دين عام يعني إدخالها في إطار مالي قابل للإدارة والمساءلة ويمنح الاقتصاد فرصة للعودة إلى مسار طبيعي.

مشاركة الخبر