Skip to main content
|

“أنس الأمين” يكتب: رؤية لإدارة السياسة النقدية في ليبيا “من تكديس الاحتياطيات إلى بناء اقتصاد منتج”

كتب: أستاذ الاقتصاد/ أنس الأمين

أعلن مصرف ليبيا المركزي مؤخرًا عن ارتفاع ملحوظ في حجم الاحتياطيات الأجنبية، في مؤشر واضح على تحسّن إدارة الأصول الخارجية واستعادة قدر من الاستقرار النقدي (Monetary Stability). هذه الأرقام تعكس نجاح المصرف في إدارة التدفقات النفطية وتوظيفها بكفاءة ضمن أدوات السياسة النقدية، بما يعزّز الثقة بالقطاع المصرفي ويُظهر قدرة الدولة على حماية مركزها المالي الخارجي.

إلا أن هذا التحسّن، رغم أهميته، لا يجب أن يُفهم كغاية في ذاته، بل كأداة (Instrument) لتحقيق أهداف اقتصادية أوسع: الاستقرار المالي، تحفيز النمو الحقيقي، ودعم التنمية المستدامة. فالاحتياطيات ليست ثروة صامتة تُخزّن، بل أداة فعّالة لتقوية الاقتصاد الوطني وتحسين قدرته على مواجهة الصدمات الداخلية والخارجية.

من الذهب إلى الأسس الاقتصادية

من المهم التذكير بأن العالم تخلّى منذ سبعينيات القرن الماضي عن قاعدة الذهب (Gold Standard System)، وأصبح معيار قوة العملة يعتمد على الأسس الاقتصادية الجوهرية (Economic Fundamentals):

الإنتاج المحلي، الميزان التجاري (Trade Balance)، الانضباط المالي، وكفاءة السياسة النقدية (Monetary Policy Efficiency).

بمعنى آخر، لم يعد امتلاك الذهب أو العملات الصعبة ضمانًا لقوة العملة، ما لم يكن مصحوبًا باقتصاد منتج قادر على توليد القيمة المضافة. لذلك، فإن تراكم الاحتياطيات في حد ذاته لا يصنع تنمية، بل يُعد وسيلة لتثبيت الثقة وإدارة الأزمات وتمويل التحول الهيكلي نحو اقتصاد متنوع ومستدام.

مقارنة إقليمية: الأردن وتونس نموذجًا

الأردن: الاستقرار عبر الانضباط والتنسيق

تُعد التجربة الأردنية مثالًا على قدرة الدولة الصغيرة على تحقيق استقرار نقدي ومالي طويل الأمد رغم محدودية الموارد. فقد حافظ البنك المركزي الأردني على احتياطيات أجنبية تفوق 17 مليار دولار، تمثل نحو 7 إلى 8 أشهر من الواردات، وهي نسبة تفوق المعدل الموصى به دوليًا.

هذا الإنجاز تحقق بفضل التنسيق الوثيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية، والانضباط في إدارة العجز، والحفاظ على مصداقية سعر الصرف الثابت.

في الأردن، تُدار الاحتياطيات باعتبارها أداة لتعزيز الثقة بالعملة، وتدعيم استقرار الأسواق، وليس كهدف للتفاخر بالحجم أو تراكم الأرقام.

تونس: الدروس من فقدان التوازن

في المقابل، تمثل التجربة التونسية درسًا في المخاطر الناتجة عن الخلل الهيكلي في القاعدة الإنتاجية. فقد تراجعت احتياطيات تونس في السنوات الأخيرة تحت ضغط العجز التجاري المزمن وارتفاع فاتورة الاستيراد، ما أدى إلى تدهور الدينار التونسي وارتفاع معدلات التضخم.

تُظهر هذه التجربة أن الاحتياطيات – مهما كانت كبيرة – لا يمكن أن تحمي العملة إذا لم تُصاحبها سياسات إنتاجية وتصديرية متماسكة. فالنظام النقدي لا يعمل في فراغ، بل يتأثر مباشرة بفاعلية الاقتصاد الحقيقي.

ليبيا: فرصة الانتقال من الوفرة إلى التوظيف الذكي

أما في الحالة الليبية، فإن ارتفاع الاحتياطيات الأجنبية يعكس تحسّن إدارة الأصول الخارجية بفضل استقرار أسعار النفط وإدارة مصرف ليبيا المركزي للسيولة والاحتياطي بشكل أكثر انضباطًا.

لكن ليبيا، على خلاف الأردن وتونس، تمتلك ميزة نوعية: وفرة مالية دون التزامات خارجية كبيرة. وهذا يمنحها فرصة نادرة للانتقال من مرحلة التكديس المالي السلبي إلى مرحلة التوظيف الإنتاجي الإيجابي.

الاحتياطيات الوفيرة تمنح المصرف المركزي مرونة في إدارة سعر الصرف عبر تبنّي نظام تعويم مدار (Managed Float System)، بحيث يتدخل البنك المركزي بالتنسيق مع الحكومة عندما يتجاوز سعر الصرف مستويات معينة (على سبيل المثال 8 دنانير للدولار) لضبط السوق ومنع التقلبات الحادة.

هذا النموذج يوفّر توازنًا ذكيًا بين مرونة السوق واستقرار الأسعار، ويمنح السياسة النقدية مساحة أوسع للتحرك دون المساس بثقة المواطنين بالعملة الوطنية.

مكافحة التضخم وحماية القوة الشرائية

غير أن الاستقرار النقدي لا يُقاس فقط بقدرة المصرف على الدفاع عن سعر الصرف، بل بقدرته على كبح التضخم الذي يلتهم الدخول ويقوّض القوة الشرائية.

توجيه جزء من عوائد الاحتياطيات نحو تمويل برامج الحماية الاجتماعية للأسر محدودة الدخل، ودعم أسعار السلع الأساسية، يعدّ ضرورة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي الموازي للاستقرار المالي.

ففي نهاية المطاف، لا يمكن لأي استقرار نقدي أن يصمد إذا لم يشعر المواطن بانعكاساته المباشرة في حياته اليومية.

نحو تناغم بين السياسات

تحقيق التوازن بين السياسة النقدية والسياسة المالية هو حجر الزاوية لأي إصلاح اقتصادي.

مصرف ليبيا المركزي يمتلك اليوم قاعدة مالية قوية، لكن تحويلها إلى أداة للنمو يتطلب تنسيقًا مؤسساتيًا واضحًا مع الحكومة، بحيث تُوجّه الموارد نحو الاستثمار في البنية التحتية، ودعم القطاعات الإنتاجية، وتمويل التحول نحو اقتصاد متنوع يخفف الاعتماد على النفط.

الاحتياطيات الأجنبية يمكن أن تتحول من مجرد “صمام أمان” إلى رافعة تنمية إذا جرى توظيفها في بناء الثقة بالعملة، وتحفيز الإنتاج المحلي، وتمويل الإصلاحات الهيكلية التي تزيد من تنافسية الاقتصاد الليبي.

إن تراكم الاحتياطيات الأجنبية لا يمثل نهاية الطريق، بل بدايته.

القوة الحقيقية لا تكمن في حجم الأرصدة، بل في كفاءة توظيفها لخدمة الاقتصاد الوطني.

التجارب الإقليمية تُظهر أن الدول التي نجحت في تحقيق توازن بين الاستقرار النقدي والنمو الحقيقي هي تلك التي تعاملت مع احتياطياتها كأداة ديناميكية، لا كمدخرات جامدة.

ليبيا تمتلك اليوم فرصة نادرة لإعادة صياغة سياستها النقدية على أسس حديثة تجمع بين المرونة والانضباط، وبين الاستقرار المالي والعدالة الاجتماعية.

وإذا استُثمرت هذه الاحتياطيات بحكمة، يمكن أن تتحول من رقم في ميزانية البنك المركزي إلى قوة حقيقية تدعم التنمية، وتحمي المواطن، وتبني اقتصادًا منتجًا ومستدامًا.

مشاركة الخبر