Skip to main content
|

“أبوسيف اغنيه” يكتب: الجريمة المنظّمة في أفريقيا.. قراءة معمّقة في الحالة الليبية

كتب: د. أبوسيف الزروق اغنيه / الخبير الدولي في الاقتصاد والتمويل الإسلامي

ظلّ الجدل قائمًا لسنوات حول ما إذا كان من الملائم الحديث عن وجود جريمة منظّمة في أفريقيا. ويعكس استمرار هذا النقاش حاجة ملحّة إلى وضوح مفاهيمي أكبر، نظرًا لما يترتب على هذا المفهوم من آثار مباشرة على البحث العلمي وصياغة السياسات العامة.

ينطلق هذا الجدل من الادعاء بأن مفهوم “الجريمة المنظّمة” ذو منشأ غربي، ويتم إسقاطه على السياقات الأفريقية أحيانًا بما يخدم أولويات المانحين وجهود التنمية الدولية. ويرى النقّاد أن هذا المفهوم لا يعكس بدقة طبيعة التفاعل بين الدولة والقطاع الاقتصادي المشروع والجهات الإجرامية في أفريقيا، كما أنه يميل إلى توصيف الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية الواسعة في القارة على أنها جريمة منظّمة.

ويستند هذا التشكيك كذلك إلى الاعتقاد بأن الجريمة المنظّمة، بالمعنى التقليدي المرتبط بتشكيلات شبيهة بالمافيا الصقلية وشبكات المحسوبية، ليست موجودة في أفريقيا. ويزداد المشهد تعقيدًا بفعل غياب تعريف عالمي جامع؛ إذ إن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (UNTOC) تكتفي بتعريف “الجماعات الإجرامية المنظّمة” دون تقديم تعريف مباشر لمفهوم “الجريمة المنظّمة”.

إلا أن التحليل القائم على الأدلة الميدانية يُظهر بوضوح أن الأنماط المختلفة من الأنشطة غير المشروعة المنتشرة اليوم في القارة – من حيث تطورها واتصالها بالاتجاهات الإجرامية العالمية – تُشكّل جريمة منظّمة مكتملة الأركان، تعمل محليًا وعبر الحدود. ويعتمد “المؤشر” (Index) تعريفًا إجرائيًا للجريمة المنظّمة بوصفها:

أنشطة غير قانونية تمارسها مجموعات أو شبكات تعمل في تنسيق ممنهج، وتستخدم العنف أو الفساد أو أدوات مرتبطة بهما لتحقيق مكاسب مالية أو مادية، سواء داخل حدود الدولة أو عبرها.

وتبرز أمثلة عديدة على ذلك، من بينها:

نظام الجباية الذي تفرضه حركة الشباب في الصومال،

العصابات المتجذّرة في جنوب أفريقيا،

الانتشار الواسع لجرائم الاحتيال والاختلاس والفساد عبر القارة،

وكلها تُبرز قدرة الفاعلين الإجراميين على استغلال أنظمة الحوكمة، وتسخير العنف والفساد لتحقيق مصالحهم. كما تمثل شبكات تهريب البشر والاتجار بهم في شمال أفريقيا نمطًا واضحًا للتنسيق العابر للحدود، فيما تكشف تجارة الكوكايين في غرب أفريقيا الدور المحوري للفساد في دمج القارة داخل شبكات التهريب العالمية. فهذه الظواهر ليست مجرد امتداد للاقتصاد غير الرسمي، بل هي منظومات إجرامية واسعة تمتاز بالعنف والتنسيق العالي والهيكلة الهرمية والامتداد الإقليمي والدولي، وكلها سمات راسخة للجريمة المنظّمة.

وقد أدركت الدول الأفريقية والهيئات الإقليمية خطورة هذه الظاهرة من خلال منظوماتها القانونية. فجنوب أفريقيا سنّت قانونًا خاصًا لمكافحة الجريمة المنظّمة، كما تناولت اتفاقيات الاتحاد الأفريقي والتجمعات الإقليمية هذه الظاهرة بوضوح، في حين صادقت غالبية الدول الأفريقية على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية. ويعكس هذا الاعتراف الرسمي اتفاقًا واسعًا على أن الجريمة المنظّمة ليست واقعًا قائمًا في أفريقيا فحسب، بل تمثل تحديًا بنيويًا يتطلب تدخلًا عاجلًا ومنسّقًا.

ما هو الحل في ليبيا؟

في ليبيا، تُظهر التقديرات والتحليلات الحديثة أن الجريمة المنظّمة باتت عنصرًا مؤثرًا في البيئة الأمنية والاقتصادية، مدفوعة بعوامل معقدة أبرزها هشاشة الدولة، تعدد مراكز القوة، انتشار السلاح، وتداخل النشاطات الإجرامية مع الاقتصادين الرسمي وغير الرسمي. وتتمثل أبرز مظاهرها في:

شبكات تهريب البشر والاتجار بهم الممتدة عبر الساحل والصحراء.

تهريب الوقود والسلع المدعومة عبر شبكات تتسم بالتنسيق والعائدات الكبيرة.

الجريمة العابرة للحدود المرتبطة بالتهريب بين ليبيا ودول الجوار.

أنشطة مالية غير مشروعة مثل غسل الأموال والاحتيال والاستيلاء على الموارد العامة.

تداخل بعض النشاطات المسلحة مع الاقتصاد الإجرامي بدرجات متفاوتة.

في ليبيا تظهر أشكال الجريمة المنظّمة الهجينة، بطابع خاص يختلف عن النموذج التقليدي الإيطالي أو المكسيكي. وهي شبكات تجمع بين:

عناصر من مجموعات مسلحة.
مهربين محترفين.
فاعلين اقتصاديين.
نافذين سياسيين.
شبكات إقليمية تمتد إلى أغلب الدول المجاورة لليبيا.

وهذه الأنشطة لا يمكن تصنيفها كجريمة فردية أو نشاط غير رسمي تقليدي؛ بل تمتلك عناصر واضحة من التنظيم، وتقاسم الأدوار، واستعمال القوة أو التهديد بها، والقدرة على اختراق المؤسسات العامة للدولة، وهي المعايير الأساسية للجريمة المنظّمة الحديثة.

وبالتالي، فإن الحالة الليبية تُعدّ مثالًا بارزًا على تعقّد الجريمة المنظّمة في السياقات الضعيفة أو غير المستقرة، مما يستدعي بناء سياسات وطنية متخصصة وإجراءات إقليمية مشتركة للسيطرة على الجريمة المنظمة منها على سبيل الاولويات لا الحصر:

توحيد المؤسسات الأمنية والقضائية.
قيادة مركزية موحدة.
حوكمة المنافذ البرية والبحرية والجوية.
سيطرة الحكومة على المنافذ.
بناء جهاز استخبارات مالي قوي (Financial Intelligence Unit).
إصلاح قطاع الدعم والوقود.
استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة الجريمة المنظمة.

مشاركة الخبر